*علامة بارزة علي طريق تطور العقل العربي المسلم….وعلم من الأعلام الذين صنعوا النشأة الأولي للتيار العقلاني في تراثنا قبل أن تعرف
العربية حركة الترجمة عن اليونان.
* وثائر في سبيل العدل والشوري تميز بنظرة خاصة لقضية الثورة ركزت علي ضرورة الإستعداد والتمكن والإعداد ورفضت الفوضي والتمردات.
ومع ذلك فهو زاهد…ناسك…عابد…سلكه الزهاد والمتنسكون في سلك أئمتهم كما تزينت باسمه صحائف الفلاسفة والمتكلمين والثوار!!
فلقد ذهب إلي بيت الله الحرام من البصرة للحج ماشياً علي قدميه أربعين مرة في أربعين سنة، ومعه راحلته-جمله- مخصصا إياه لركوب الفقراء والضعفاء!!
وضرب الناس المثل بزهده في المال – رغم فقره وحاجته- فقبل أن يلي أبوجعفر المنصور (95-158 هـ 714 -775 م) الخلافة كان تلميذاً له، وكان يجمع له نفقاته، فلما أصبح المنصور خليفة اختلفا ورفض صاحبنا أموال المنصور..ولما عرض عليه خالد بن صفوان –وهو من أصحابه- مالاً يقضي به حوائجه، رفض، ودار بينهما هذا الحوار:
ــ لم لا تأخذ مني مالاً، فتقضي دينا ، إن كان عليك، وتصل رحمك؟!
ــ أما دين: فليس علي …وأما صله رحمي: فلا يجب علي وليس عندي!
ــ فما يمنعك أن تأخذ مني؟!
ــ يمنعني: أنه لم يأخذ أحد من أحد شيئا إلا ذل له! وأنا ، والله أكره أن أذل لك؟!
ووضعه البلغاء علي رأس الذين أبدعوا في علوم العربية لوناً جديداً من ألوان البلاغة..بلاغة الموعظة والجدل والمناظرة التي نشأت مع نشأة الجدل بين علماء الكلام..وهو قد عرف هذه البلاغة عندما سئل عنها فقال :
“إنها تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المئونة علي المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل في قلوبهم، بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة!!” وهي بلاغة كان يبكي عند سماعها السامعون.
*وذكر له جامعوا الحكم والمواعظ درراً ازدانت بها صفحاتهم، من مثل قوله” ذكر غضب الرب يمنع من الغضب”.
وقوله:” اللهم أغنني بالإفتقار إليك، ولا تفقرني بالإستغناء عنك! اللهم أعني علي الدنيا بالقناعة، وعلي الدين بالعصمة!”
وقوله ” أعيتني ثلاث خلال: تركي ما لا يعنيني ودرهم من حلال، وأخ إذا احتجت إلي ما في يده بذله لي؟!”
*وتذكره مصادر التاريخ العربي الأولي واحداً من الرواه ونقاد الروايات التاريخية وعالما بالسير والملاحم وأنباء الثورات والحروب.
*وذكر له الثوار كلماته الجامعة التي قالها عندما رأي رجال الشرطة في الدولة الأموية يسوقون إلي السجن رجلاً فقيراً هزيلاً لأنه سرق مالاً قليلاً، ثم عادوا به يقطعون يده، ومن حولهم تجمهر الناس يستطلعون…فسئل صاحبنا:
ــ ما هذا !؟
ــ إنه سارق يقطعون يده..
ــ لا إله إلا الله!!..سارق السر يقطعة سارق العلانية.
أما صاحبنا هذا…فهو : أبوعثمان، عمرو بن عبيد “80-144هـ” “699- 761م” كان أبوه: عبيد بن باب، واحدا من الموالي الذين أتت بهم إلي البصرة فتوحات العرب المسلمين لمدن فارس، ومدينة “كابل” الأفغانية علي وجه التحديد..كان من موالي بني العدوية، ومن قبيلة تميم. وأغلب الظن أن مولده كان بالبصرة…ففيها كان أبوه أحد الذين احترفوا صناعة النسيج…ثم ترك هذه الصناعة إلي التجارة..ثم هجر التجارة ليعمل جندياً في شرطة طاغية العراق، علي عهد بني أمية: الحجاج بن يوسف الثقفي(40-95هـ) (660-714م) ومع الحجاج وتحت سلطته أصبح عبيد بن باب واحداً من جهاز الدولة الظالمة وسوطاً من سياط الحجاج التي تلهب ظهور المسلمين..وفي مواجهة الحجاج وتسلطه برز عمرو بن عبيد عالماً زاهداً ورعاً، وأيضا ثائراً ينشد عودة “الشوري” إلي المجتمع، ورجوع “العدل” أساساً للحكم بين الناس..حتي لقد أصبح مع والده: التجسيد للنقيض مع النقيض! وكان عبيد بن باب إذا ما مر علي الناس وبصحبته ابنه عمرو، أشار الناس إلي الأب وقالوا: هذا شر الناس، أبو خير الناس!
النشأة الأولي
وكما هي العادة..فإن مصادر التاريخ ومراجعه لا تلبي حاجة الباحث عن النشأة الأولي لعمرو ابن عبيد ففجأة نلتقي به واحداً من أبرز أصحاب الحسن البصري(21-110هـ) (642-728م) ذلك الزاهد الثائر العالم الذي تنازعت فرق المسلمين ومدارسهم الفكرية عليه، تريد كل واحدة أن تنسبه إلي أئمتها وأعلامها……والذي خرجت من تحت عباءته ومن حلقة درسه بمسجد البصرة – ثورات وهبات وانتفاضات وأحزاب وفرق وتيارات!!
نلتقي بعمرو بن عبيد واحداً من أبرز أصحاب الحسن البصري وشهود حلقته ومدرسته في مسجد البصرة..وكانت قد تبلورت لهذه المدرسة، في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ملامح فكرية ميزتها عن غيرها من التيارات التي كانت تتصارع في الساحة بالمجتمع العربي علي عهد الأمويين.
- فالأمويون منذ عهد معاوية بن أبي سفيان (20-60هـ) (603- 680م) أشاعوا فكرة “الجبر” وشجعوا القائلين به، كي يبرروا التغيرات التي أحدثوها في نظام الحكم الذي حولوه من “الشوري” و”الاختيار” إلي “الملك الوراثي”…..وكي يبرروا كذلك المظالم الاجتماعية والسياسية والاضطهادية التي أصابوا بها خصومهم، والتي بلغت قمتها في القتل الجماعي للخوارج، والمحنة الدائمة للشيعة، ومأساة استشهاد الحسين في كربلاء…..
- وأمام فكرة “الجبر” هذه، أخذت مدرسة الحسن البصري تشيع الفكر الإسلامي النقي، الذي ينحاز بالكامل إلي حرية الإنسان واختياره ومسئوليته، واتهمت دعاه ” الجبر” بأنهم يلحقون شبهة “الجور” بالذات الإلهية، إن هي حاسبت الناس علي أعمال هي التي “أجبرتهم” علي اتيانها…”فالعدل”- وهو من صفات الله- يقتضي تقرير الحرية والاختيار والمسئولية للانسان…
- وفي تيار “أهل العدل” هذا نجد عمرو بن عبيد واحداً من أبرز الأعلام……بل لقد أكدت المصادر الأولي لتاريخ هذا التيار أن رائده كان هو الفيلسوف الثائر معبد الجهني، عبدالله بن حكيم (المتوفي سنة 80 أو سنة 90هـ)……..وإن الذي قاد هذا التيار بالبصرة، بعد معبد الجهني هو عمرو بن عبيد…….بل تذكر هذه المصارد أن تيار” أهل العدل” قد قوي وزاد أنصاره عندما تولي عمرو بن عبيد قيادته، ذلك أن زهده وورعه ونبوغه قد أجتذب إلي صفوف ذلك التيار أنصاراً كثيرين…………..وبعبارة القدماء: فإن أهل البصرة قد اعتنقوا هذا الفكر ” لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله!”.
- والأمويون- كذلك- شجعوا تلك الفرقة التي سميت “بالمرجئة” والتي أرادت صرف الناس عن الجدل حول عقائد بني أمية، بصرفهم عن ربط الأعمال بالاعتقادات، والفصل بين النظرية والتطبيق!…فلم يكن هناك من ينكر أن حكام بني أمية يرتكبون الظلم ويقترفون السيئات ويفعلون الذنوب الكبائر…وأمام هذه الحقيقة حكم الخوارج عليهم بالكفر…فطالب “المرجئة” بإرجاء الحكم علي العقائد، والفصل بين العمل وبين الاعتقاد وإرجاء كل ذلك إلي حساب الله سبحانه يوم الدين!
- ولقد تحفظ تيار العدل- وفيه عمرو بن عبيد- علي تطرف الخوارج، ثم رفض تبرير “المرجئة” وحكم علي مرتكبي الذنوب الكبائر، غير التائبين منها بالفسق والنفاق…
- ولقد شاعت في المجتمع يومئذ بقايا أفكار المذاهب والديانات القديمة التي تميل إلي تشبيه الذات الإلهية بالمخلوقات والأشياء وتتحدث عن “حلول” هذه الذات و”اتحادها” بغيرها من الأشياء…
- وأمام تيار “التشبيه” هذا قدم أهل “العدل” صياغاتهم الفكرية التي عرضت نقاء فكرة التوحيد كما جاءت في القرآن، فرفضوا كل ما يؤدي إلي إلحاق شبهة التشبيه والتجسيد والحلول والإتحاد بذات المولي سبحانه، وأرسوا دعائم فكر التنزيه والتجريد في العلوم الإلهية، لبنه أولي ودعامة أساسية من اللبنات والدعائم التي قام عليها علم التوحيد الاسلامي….ومن هنا كانت شهرة هذا التيار باسم”أهل العدل والتوحيد”…أي القائلون بالحرية والاختيار للإنسان، والتنزيه للذات الإلهية عن مشابهة المخلوقات….هكذا نلتقي بعمرو بن عبيد علماً من أعلام أهل “العدل والتوحيد”….
في قيادة المعتزلة
حتي إذا كان العقد الأول من القرن الثاني الهجري، جاء إلي البصرة ـ من المدينة ـ واصل بن عطاء (80 ـ131هـ) (699ـ 748م) وهو من دعاة “العدل والتوحيد”…ولكنه جاء يبشر بإضافة جديدة فيما يتعلق بالموقف من بني أمية وتقيم أعمالهم ومايترتب عليها…فهو مثل رفاقه يرفض تطرف” الخوارج” وتفريط “المرجئة”…ولكنه يرفض كذلك الاكتفاء بوصف مرتكبي الذنوب الكبائر بوصف “النفاق”…فهم عنده ليسوا كفرة، لأنهم يرثون ويورثون، ويدفنون في مقابر المسلمين…الخ…وهم ليسوا منافقين، لأنهم أصحاب مظالم معلنة….وهم ليسوا بمؤمنين، لأنهم افتقروا إلي الإتصاف بصفات المؤمنين كما حددها القرآن الكريم…إذن فهم في موقف وسط بين الكافرين والمؤمنين، وفي “منزلة بين المنزلتين” اللتين ينزلهما أهل الكفر وأهل الإيمان….
وفي حلقة الحسن البصري بمسجد البصرة عرض واصل أفكاره…ودار من حولها الجدل…..فتبعه فريق من العلماء والطلاب…..ودارت بينه وبين عمرو بين عبيد مناظرة حامية وشهيرة أفضت إلي انتصار واصل، فتبعه عمرو وانخرط معه في قيادة تيار “المنشقين” علي حلقة الحسن البصـــري” المعتزلين” لمذهبه في الموقف من بني أمية ومرتكبي المظالم والذنوب الكبائر…وسموا، منذ ذلك الحين، ولذلك السبب ب”المعتزلة” أهل العدل والتوحيد.
وكان عمرو بن عبيد أبرز قادة المعتزلة في البصرة…والرجل الثاني في مدرستهم الفكرية – بعد واصل علي الإطلاق……
وعندما توفي واصل بن عطاء (131هـ - 748م) تولي عمرو بن عبيد القيادة السياسية والفكرية لتيار المعتزلة…..وكان ذلك التيار قد اجتذب إلي صفوفه – بعد وضوح تشدده في معارضة مظالم بني أمية وظلمهم ـ أنصاراً جدداً كثيرين، وخاضة من شيعة آل البيت، فانخرط في (الاعتزل) شباب آل البيت وفتيانهم، متخلين بذلك عن نهج الشيعة الإمامية الذي بشر به قائدها جعفر الصادق (80- 148هـ) (699-765م) في القعود عن الثورة والتحذير من عواقبها…كما انضم إلي الإعتزال أيضاً شباب بني هاشم، ومنهم العباسيون وكان ضمن الذين انضموا وتتلمذوا علي يدي عمرو بن عبيد: أبوجعفر المنصور(95- 158هـ) (714- 775م) قبل أن يتولي الخلافة العباسية……بل كان يتولي جميع نفقات عمرو من المريدين، ويظهر الميل الشديد له، ويكن له أعظم الود والاجلال والتوقير…
مع الثورة ضد بني أمية
ورغم أن عمرو بن عبيد، وعددا كبيراً من قادة (المعتزلة) كانوا ينحدرون من أصول عرقية غير عربية - موالي- إلا أن مواقفهم الفكرية والسياسية قد برئت من الفكر الشعوبي المعادي للعروبة، بل لقد بشروا ببواكير الفكر القومي العربي، عندما رفضوا كلا من الشعوبية والعصبية العربية الضيقة الأفق، التي استثمرها بنوأمية، واضطهدوا تحت ستار أبناء الشعوب التي فتح العرب والمسلمون بلادها…وقدم المعتزلة بديلاً جديداً لهذين الموقفين المتطرفين، والخاطئين، عندما بشروا بمفهوم حضاري للعروبة ينظرون من خلاله للعادات والتقاليد والثقافة باعتبارها صلات ووشائج تفوق في قوة توحيدها وتأليفها بين الناس قوة الأنساب والعروق والأرحام…وبعبارة الجاحظ (163- 225هـ) (780- 869م) – وهو من أعلام المعتزلة – فإن هذه الروابط الحضارية، بالنسبة للعرب والذين تعربوا هي بمثابة الرحم الواحد ولدتهم منه العروبة ولادة جديدة، كي يؤلفوا معا مجتمعهم الواحد والجديد!
ومن هنا فلم يتعصب عمرو بن عبيد ولم تتعصب المعتزلة ضد الأمويين…عارضوهم…نعم…وثاروا ضدهم…ولكن دون تعصب يطمس الايجابيات ويغفل عن نقاط الاتفاق والالتقاء…
فعندما تولي الخلافة الخليفة الأموي العادل عمر بن عبدالعزيز (61-102هـ) (681- 730م) أيده المعتزلة، وساندوه وتولي غيلان الدمشقي (المقتول بعد سنة 106هـ) معاونته في مصادرة أموال بني أمية وبيعها في مزاد عام، لحساب الأمة، في ميادين دمشق…وعندما تسائل البعض: كيف تعترف بإمامة عمر بن عبدالعزيز وهو قد تولي الخلافة بالميراث ودون شوري؟!…كان جواب عمرو بن عبيد في تشخيص هذا الوضع “الدستوري” الفريد : لقد ” أخذ عمر بن عبدالعزيز الخلافة بغير حقها، ولا باستحقاق لها- ولكنه استحقها بالعدل حين أخذها” فهو لم يصبح إماما بالتفويض والبيعة المتقدمة من قادة الأمة، ولكنه أصبح إماماً بالرضا المتجدد من أهل الفضل والحل والعقد، الذين ناصروه، وأثنوا علي ما أحدث في الدولة والمجتمع من تحولات.
وعندما انخرط الأمير الأموي: يزيد بن الوليد (86-126هـ) (705-744م) في تيار المعتزلة، وعقدوا له البيعة بالاختيار، ثم ثاروا تحت قيادته ضد حكم الخليفة الأموي الماجن: الوليد بن يزيد (88-126هـ) (707-744م) لم يتردد عمرو بن عبيد وهو بالعراق في تأييد الثورة التي قامت بدمشق الشام، ومساندتها فدعا أصحابه الي تكوين جيش يقوده هو، يخرجون به إلي الشام ثائرين، ناصرين للثوار الذين يقودهم أمير أمـــوي…وقال عمــرو لأصحــابه ” تهيأوا حتي نخرج إلي هذا الرجل فنعينه علي أمره”
وعندما سئل عمرو بن عبيد عن تقييمه لفترة حكم هذا الخليفة الثائر، وعن استحقاقه صفة “الإمامة” بشروط المعتزلة لها وفيها، كان جوابه: “أنه الكامل! عمل بالعدل! وبدأ بنفسه، وقتل ابن عمه في طاعة الله، وصار نكالاً علي أهل بيته، ونقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة، وجعل في عهده شرطاً ولم يجعله جزما”
فمؤهلات هذا الأمير الثائر، التي استحق بها الإمامة علي مذهب عمرو بن عبيد: 1- العدل…وهو قد مارسه، وبدأ فيه بنفسه. 2- وقاد الثورة ضد أمراء بيته الأموي…وقتل خليفتهم: ابن عمه. 3- واقتص للناس من بني أمية. 4- وإعادة توزيع الثروات بالعدل، وانقص الأعطيات التي زادها الجبابرة من خلفاء الأمويين. 5- وعندما بايعه الناس بالخلافة، جعل عهد بيعته واستمرارها مشروطاً بطاعته لله وعدله في المجتمع، وقيامه بالعدل بين الناس، ولم يجعلها بيعة جازمة مؤبدة كما كان يفعل سابقوه!
ومن هنا فهو إمام…وإمام كامل…كما يقول عمرو بن عبيد…ومن هنا فهو معدود في سلسلة الأئمة الذين استحقوا الإمامة علي مذهب المعتزلة…
أزمة علاجها الشوري
فلما دخلت الدولة الأموية في دور الاحتضارتحت الضربات القوية التي أثمرتها ثورة الخوارج، وخاصة الخوارج الأزارقة بدأت الأطراف السياسية المختلفة تضع في جدول أعمالها قضية: من يخلف بني أمية في منصب الخلافة وحكم الامبراطورية؟؟..
أما القوي الشعوبية، وعلي رأسها جند خراسان الذين يقودهم أبومسلم الخراساني(137هـ- 754م) فإنهم انخرطوا في تيار الثورة يبغون الانتقام من العرب فتحوا بلادهم وأذاقوهم مرارة التعصب، الذي مارسه الأمويون….وأما شيعة آل بيت الرسول ومعهم عامة بني هاشم فإنهم ثاروا، هم كذلك، طالبين أن تكون الخلافة في ” آل محمد” دون تحديد لشخص الخليفة المنشود…كما انخرطت في جموع الثورة ومواكبها وشاركت في معاركها المسلحة جموع وقبائل وتيارات تباينت غاياتها واتفقت فقط علي الرغبة في التغيير، طمعاً في أن يأتي فجر العدل بعد ليل الظلم الأموي الطويل!
وهنا تقدم المعتزلة – الذين شاركوا في الثورة بمشروع محدد ومدروس فلقد أعلنوا، علي لسان قائدهم عمرو بن عبيد، أن آفة نظام الحكم الأموي قد بدأت مع معاوية بن أبي سفيان، يوم أحدث انقلابه الدامي الوراثي…ومن ثم فلابد من إعادة “الشوري” فلسفة لنظام الحكم، واختيار خليفة تُعقد له البيعة بالرضا والاختيار…قرروا ذلك، وأعلنوه ودعوا إليه مختلف الفرقاء…
ولقد تحفظ فريق من الشيعة الإمامية علي هذا المشروع، لأن المعتزلة هم الذين تقدموا به، ولأن الخليفة المرشح كي تعقد له البيعة – محمد بن عبدالله بن الحسن النفس الزكية- وإن يكن من آل البيت إلا أنه معتزلي…وزعم هذا الفريق أن لديه “صحيفة” سماوية قد دونت بها أسماء الأئمة والخلفاء، وليس النفس الزكية من بينهم!
ولكن المعتزلة، ومعهم تيار قومي عربي مؤثر، قد مضوا في سبيلهم رغم تحفظ رأس الشيعة الإمامية: جعفر الصادق ( 80-148 هـ) (699-765م) لأنهم أبصروا الخطر الشعوبي الذي كان يحمل في السياسة فكراً “ملكيا” من مواريث الكسروية الفارسية، ولا يذهب مذهب المعتزلة في “الشوري” و”الفكر القومي العربي المستنير” فدعا عمرو بن عبيد إلي مؤتمر جامع عقد بمكة، وعرض فيه اقتراحه فقال: ” …إننا قد نظرنا، فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروءة ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبدالله بن الحسن…فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه وكان معنا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا – (عادانا وحاربنا)- جاهدناه ونصبنا له علي بغيه، ونرده إلي الحق وأهله…”
وبايع جمهور الحاضرين في هذا المؤتمر(للنفس الزكية) بالخلافة، وبدأت تعقد له البيعة في المدن والأمصار والأقاليم…وأخذت قوات أموية تطرق إليها اليأس في قتالها ودفاعها عن الدولة المحتضرة، أخذت تفكر في البيعة للخليفة الجديد…وكان أمراء البيت العباسي الهاشمي – ومنهم أبوالعباس (السفاح) ، وأبوجعفر المنصور- من رجالات المعتزلة يومئذ ومن حضور مؤتمر مكه، ومن الذين بايعوا (النفس الزكية) بالخلافة مع المبايعين.
ولكن التيار الشعوبي نجح في اجهاض مسعي المعتزلة وحلفائهم، وعندما تخلص من القيادة القومية في حركة الثورة المقاتلة، ممثلة في أبي سلمة الخلال، باغتياله سنة 132هـ ثم استقطب من الهاشمين فرعاً طامعاً في السلطة هو الفرع العباسي، فعقدا معاً صفقة سياسية: أن يزيح من طريق الثورة تيارها القومي وقيادتها المعتزلية العقلانية، وأن يظل نظام الحكم ملكيا وراثياً، مع استبدال بني العباس ببني أمية، وأن تكون اليد العليا في النظام الجديد للجند الخراساني الذي يقوده الشعوبيون…
وتداعت الأحداث التي نصرت ذلك المخطط…ووثب إلي منصب الخلافة “معتزلي مرتد” هو أبوالعباس السفاح (104- 136 هـ) (722- 754م) ثم لم يلبث أن توفي ليخلفه في الخلافة التلميذ القديم لعمرو بن عبيد: أبوجعفر المنصور.
المقاومة السلمية
ووجد عمرو بن عبيد تلميذه القديم يتولي الخلافة، ويطارد بالسجن والقتل والتعذيب، رجال المعتزلة، وكل الذين ظلوا أوفياء لفكرة الشوري، وأمناء للبيعة التي أعطوها للنفس الزكية…ووجد التلميذ القديم نفسه في مواجهة التيار الفكري الذي انخرط فيه يوماً، والذي يقوده الزاهد العابد الناسك: عمرو بن عبيد، استاذه الذي لم تزل الخلافات الجديدة ما استقر له بنفسه من إجلال وتوقير…فبدأت مرحلة من الصراع المعلن الصامت، والأخذ والجذب، والتوجس والريبة بين رجلين جمعتهما يوماً ووحدتهما الفكرة والقضية والفلسفة والاتجاه…
فالمعتزلة أخذ فريق منهم يستحث عمرو بن عبيد كي يعلن الثورة المسلحة ضد حكم المنصور العباسي…ولكن الرجل- مع إيمانه بالثورة، ضرورتها ومشروعيتها وتوافر دواعيها- كانت له تجارب مباشرة وغير مباشرة، جعلته يستحضر ذكريات الثورات العديدة التي قامت ضد الأمويين ثم فشلت، وما جرته علي أصحابها من ويلات وآلام……فدعا إلي نظرية في الثورة تطلب: ” الإعداد والإستعداد” وسماها : (التمكن)…فهو لا يحبذ التمرد الذي يفضي إلي الفشل، بل يطلب الإعداد الذي يضمن للثوار (التمكن) من بلوغ الغاية التي يريدون…ولقد كانت عينه تريد وقلبه يبغي أن يتوفر للثورة نفر من ثابتي العقيدة أقوياء الايمان شديدي البأس يبلغون في العدد مبلغ الذين قاتلوا مشركي قريش يوم بدر مع رسول الله….فطلب ألا تعلن الثورة حتي يبلغ مقاتلوها، في العدد والصفة، مبلغ البدريين!! وفي هذا السبيل تحمل عمرو مُر النقد، بل والهجوم من نفر من المعتزلة فأبو عمرو الزعفراني ينتقده، ويدور بينهما حوار يبدأه الزعفراني بقوله:
إني أخالك جباناُ!! ….ولم؟!……لأنك مطاع ولا تناجز هذا الطاغية؟؟!!
ويحك! هل الجند أشد من جندهم؟…ورجالي أشد من رجالهم؟ أما رأيت صنيعهم بفلان، وخذلانهم لفلان؟ والله لوددت أن سيفين اختلفا في بطني حتي يبلغا منحري، كلما انتهيا إلي ذلك أعيدا، وأن الناس أقيموا علي كتاب الله وسنة نبيه!”
والمنصور يتوجس خيفة من استاذه القديم، ولكنه يفرح بعض الشيء ويطمئن بعض الاطمئنان لنظرية ضرورة (التمكن) هذه…….فأني لعمرو بن عبيد نيف وثلاثمائة مقاتل في عزمه وصلابته ويقينه، كما كان لرسول الله يوم بدر عندما التقي الجمعان؟!
ويحاول المنصور تضييق الفجوة بينه وبين المعتزلة، سالكا طريق علاقاته القديمة بعمرو بن عبيد، فهو يريد أن يجمع له نفقاته، كما كان يفعل قديماً..ولكن عمراً يرفض بإصرار عطاء الخليفة المنصور!
ثم يدخل المنصور مباشرة، إلي لب الخلاف في القضية، فيطلب من عمرو أن تعترف المعتزلة بالأمر الواقع. فلقد أصبح الحكم بيد بني العباس، وكثيرون حتي من الذين بايعوا للنفس الزكية، قد أعطوا المنصور بيعتهم، رغبا أو رهبا!! ولم يبق –في نظر المنصور- إلا أن يتعاون المعتزلة مع النظام الجديد، ويسهمون في نظام الدولة وحركة التغيير…ولكن عمرو بن عبيد يرفض التعاون، بل ولا يتسامح مع أي معتزلي يدخل جهاز الدولة الجديد!
ولكن المنصور لا ييأس…..فاستدعي عمرو بن عبيد، وأعلن له أنه يفوضه في أن يولي أصحابه المناصب التي يريد……فرفض عمرو مرة أخري، وأنبأه أن وجوده منصب الخلافة وجهاز الدولة في قبضة الجند الخراساني –(الشياطين) –عقية لا تنفع في تذليلها مثل هذه التفويضات لأن الأساس خاطيء، والقوة المهيمنة والضاربة تقف من فكر المعتزلة موقف العداء….ودار بين الرجلين هذا الحوار الذي بدأه المنصور بقوله:
“يا أبا عثمان، ائتني بأصحابك أستعين بهم”
“أظهر الحق يتبعك أهله! ومر عمالك بالعدل والانصاف…”
“إني لأكتب لهم، فآمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا لم يعملوا فما عسانا نفعل؟!
إنك لتكتب إليهم في حوائجك فينفذونها، وتكتب إليهم في طاعة الله فلا ينفذون؟! إنك لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل لتقرب به إليك من لا نيه له فيه….إن الملوك بمنزله السوق، وإنما يجلب إلي السوق ما ينفق فيها!…إن حاشيتك اتخذوك سلما لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين، وغيرك يحلب!…إن هؤلاء لن يغنوا عنك من الله شيئاً!!
فيرد المنصور ” هذا خاتمي – ونزع المنصور خاتم الملك- خذه، وول من شئت، وأئت بأصحابك أولهم!…
إن أصحابي لا يأتونك وهؤلاء الشياطين-(الخراسانية الشعوبية)- علي بابك، فإن هو أطاعوهم أغضبوا الله، وإن هم عصوهم أغروك وألبوك عليهم….أدعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك!…ببابك ألف مظلمة، أردد منها شيئا نعلم أنك صادق؟!..
وعند هذا الحد من الحوار الساخن بين الاستاذ الزاهد العابد الناسك الثائر، وبين تلميذه القديم، الذي أصبح ملكاً يعادي رفاق كفاحه ويتعقبهم بالسجن والنطع والسيف ومختلف صنوف العذاب…عند هذا الحد أراد عمرو بن عبيد الانصراف…فرغب المنصور أن يقبل عمرو منه مالاً، ودار بينهما فصل جديد في الحوار، بدأه المنصور:
“قد أمرنا لك بعشرة آلاف….” فيرد عمرو ” لا حاجة لي فيها!” فيقول المنصور” والله لتأخذنها!” ” لا، والله لا آخذها”
وكان المنصور إمعانا في تكريس نظام الملك الوراثي، قد عين ابنه” المهدي” ولياً للعهد…..وكان شاهداً لحوار أبيه مع عمرو بن عبيد……فاستعظم أن يرفض رجل عطاء أبيه الخليفة، واستنكر أن يرد انسان يمينا حلفها المنصور، فتدخل في الحوار، مخاطبا عمرو بن عبيد، ومستفهماً في إنكار واستنكار.
“يحلف أمير المؤمنين، وتحلف أنت؟!”
“(فتسائل عمرو): من هذا الفتي؟!
“هذا محمد ابني، وهو المهدي، وهو ولي عهدي!
“أما والله لقد ألبسته لباساً ما هو من لباس الأبرار، ولقد سميته باسم ما استحقه عملاً..! ولقد مهدت له أمراً-ولايه العهد- أمتع ما يكون به،اشغل ما يكون عنه! –(ثم التفت عمرو إلي المهدي، ولي العهد، وقال): نعم، يابن أخي، إذا حلف ابوك أحنثه عمك! لأن أباك أقوي علي كفارات اليمين من عملك!!
ومرة ثانية…أراد عمرو الانصراف…
ولكن المنصور أراد أن يسبر غوره، ويعلم موقفه من الثورة التي يعد لها النفس الزكية، والتي اختفي عن العيون والجواسيس كي ينجز لها العدة والعتاد…وكان المنصور علي يقين من صدق عمرو واستحالة الكذب علي لسانه…فسأله:
“بلغني أن محمد بن عبدالله بن الحسن – (النفس الزكية)- كتب إليك كتاباً!
“قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه!!
“أجبته؟…-(أي استجبت لرأيه في الثورة المسلحة، وتجريد السيف ضدي؟)
“ألست قد عرفت رأيي في السيف – (الثورة المسلحة)- أيام كنت معنا؟!
“أفتحلف؟!
“إن كذبتك تقية – أي اتقاء للضرر- لأحلفن لك تقية؟!!
“أنت والله، الصادق البار!!”
عند هذا الحد من الحوار بدت رغبة عمرو بن عبيد شديدة في الانصراف…فسأله المنصور: “فهل لك من حاجة؟ ….نعم…لا تبعث إلي حتي أجيئك!!
إذا لا تلقني أبدا؟!….هذه هي حاجتي!”
ونهض عمرو منصرفا تشيعه نظرات الإعجاب من المنصور، ونظرات العجب والدهشة من حاشيته، الذين شهدوا من جرأته مالم يعهد مجلس الخليفة من قبل…فأراد المنصور أن يبدد عجبهم ودهشتهم، فنظر إليهم، بعد أن ودع – واقفا- استاذه القديم…وقال لهم:
كلكم يمشي رويد …..كلكم يطلب صيد…..غير عمرو بن عبيد
ولقد ظل المنصور قلقاً، تتوزعه الأفكار…فهو يثق بصدق استاذه القديم فيما قاله من أن مذهبه في استخدام السيف –أي القوة- في تغيير النظم والدول معروف…ولكن…ما يدريه أن تجتمع لثورة النفس الزكية شروط الاستعداد والتمكن فيمنحها عمرو بن عبيد البركة التي تدعمها بالقوة والأنصار! ومن هنا، وحتي يطمئن قلبه، زور كتابا علي لسان النفس الزكية، وبعث به رسولا إلي عمرو بن عبيد، وهو يجلس ليعلم في مسجد البصرة، كالمعتاد….فلما نظر عمرو في الكتاب، طواه، وأدرك ما وراءه، فرفع بصره إلي الرسول وقال له: ” قل لصاحبك: دعنا نجلس في هذا الظل، ونشرب من هذا الماء البارد حتي تأتينا آجالنا في عافية؟!”
وبقدر ما كان المنصور ينجح في حرمان قوي الثورة الاعتزالية من شروط (التمكن) كما يراها استاذه القديم بقدر ما كان اطمئنانه لموقف استاذه يزداد…فلقد قال له يوما قائل:
“إن عمرو بن عبيد خارج –ثائر- عليه….(فأجابه)-:
“هو لا يري أن يخرج علي إلا إذا وجد ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً مثل نفسه…وذلك لا يكون؟!”ظلت هذه الأفكار والنوازع والهواجس تتنازع المنصور…وهو دائب السعي لاجهاض استعداد المعتزلة للثورة…بالسجن والتعذيب والقتل والحصار والمطاردة والتجويع…بالترغيب وبالترهيب…وأيضا بحصار عمرو بن عبيد والحد من نفوذه الطاغي علي أنصاره ومريديه…
وعندما أدركت الوفاة عمرو بن عبيد في الطريق إلي مكه، سنة 144 هـ 761م، ودفن في “مران” – علي بعد مسيرة ليلتين من مكة- تنازعت المنصور مشاعر متباينة وأحاسيس شتي…
- فهو قد حزن لموت انسان ليس كمثله كثيرون.
- ثم هو قد تخلص –بالموت- من خصم كان موقفه في صفوف المعارضة عبئاً ثقيلاً علي الدولة ونظامها…
- ولكنه أصبح بخاف الثورة أكبر من ذي قبل…فلقد مات صاحب نظرية (التمكن) وضرورة الصبر في الإعداد والاستعداد…,انفتح الباب أمام الشاب المتعجل للثورة ضد بني العباس..
- ولكن…لعل في التعجل والتعجيل بالثورة الخير كل الخير للدولة…ففي ذلك حتف الثوار واجهاض الثورة الأكيد…لكن هذه الأحساسيس جميعها لم تدع أية شائبة تشوب الصورة القدسية لعمرو بن عبيد في نظر تلميذه وخصمه أبي جعفر المنصور…حتي إذا سافر إلي مكة، وأبصر في الطريق قبر أستاذه ب”مران”، توقف بركبه، وصنع مالم يصنعه خليفة من قبله…إذ رثي –وهو أمير المؤمنين- رجلاً لم يتول في يوم من الأيام منصباً من المناصب، فضلا عن أن يكون هذا المنصب مساوياً أو مقارباً لمنصب أمير المؤمنين…وقف التلميذ أمام قبر استاذه وقال:
صلي الإله عليك من متوسد قبراً مررت به علي مران
قبراً تضمن مؤمنا متحنـــفاً صدق الإله ودان بالفرقـان
فلو أن هذا الدهر أبقي صالحا أبقي لنا حيا اباعثمـــــــــان
واندلعت ثورة المعتزلة، بقيادة النفس الزكية، ضد المنصور سنة 145هـ…بعد عام من وفاة قديسهم وزاهدهم وناسكهم وعالمهم وقائدهم: عمرو بن عبيد…رحمه الله !
منقول من كتاب “مسلمون ثوار” للدكتور والمفكرالإسلامي محمد عمارة
العربية حركة الترجمة عن اليونان.
* وثائر في سبيل العدل والشوري تميز بنظرة خاصة لقضية الثورة ركزت علي ضرورة الإستعداد والتمكن والإعداد ورفضت الفوضي والتمردات.
ومع ذلك فهو زاهد…ناسك…عابد…سلكه الزهاد والمتنسكون في سلك أئمتهم كما تزينت باسمه صحائف الفلاسفة والمتكلمين والثوار!!
فلقد ذهب إلي بيت الله الحرام من البصرة للحج ماشياً علي قدميه أربعين مرة في أربعين سنة، ومعه راحلته-جمله- مخصصا إياه لركوب الفقراء والضعفاء!!
وضرب الناس المثل بزهده في المال – رغم فقره وحاجته- فقبل أن يلي أبوجعفر المنصور (95-158 هـ 714 -775 م) الخلافة كان تلميذاً له، وكان يجمع له نفقاته، فلما أصبح المنصور خليفة اختلفا ورفض صاحبنا أموال المنصور..ولما عرض عليه خالد بن صفوان –وهو من أصحابه- مالاً يقضي به حوائجه، رفض، ودار بينهما هذا الحوار:
ــ لم لا تأخذ مني مالاً، فتقضي دينا ، إن كان عليك، وتصل رحمك؟!
ــ أما دين: فليس علي …وأما صله رحمي: فلا يجب علي وليس عندي!
ــ فما يمنعك أن تأخذ مني؟!
ــ يمنعني: أنه لم يأخذ أحد من أحد شيئا إلا ذل له! وأنا ، والله أكره أن أذل لك؟!
ووضعه البلغاء علي رأس الذين أبدعوا في علوم العربية لوناً جديداً من ألوان البلاغة..بلاغة الموعظة والجدل والمناظرة التي نشأت مع نشأة الجدل بين علماء الكلام..وهو قد عرف هذه البلاغة عندما سئل عنها فقال :
“إنها تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المئونة علي المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل في قلوبهم، بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة!!” وهي بلاغة كان يبكي عند سماعها السامعون.
*وذكر له جامعوا الحكم والمواعظ درراً ازدانت بها صفحاتهم، من مثل قوله” ذكر غضب الرب يمنع من الغضب”.
وقوله:” اللهم أغنني بالإفتقار إليك، ولا تفقرني بالإستغناء عنك! اللهم أعني علي الدنيا بالقناعة، وعلي الدين بالعصمة!”
وقوله ” أعيتني ثلاث خلال: تركي ما لا يعنيني ودرهم من حلال، وأخ إذا احتجت إلي ما في يده بذله لي؟!”
*وتذكره مصادر التاريخ العربي الأولي واحداً من الرواه ونقاد الروايات التاريخية وعالما بالسير والملاحم وأنباء الثورات والحروب.
*وذكر له الثوار كلماته الجامعة التي قالها عندما رأي رجال الشرطة في الدولة الأموية يسوقون إلي السجن رجلاً فقيراً هزيلاً لأنه سرق مالاً قليلاً، ثم عادوا به يقطعون يده، ومن حولهم تجمهر الناس يستطلعون…فسئل صاحبنا:
ــ ما هذا !؟
ــ إنه سارق يقطعون يده..
ــ لا إله إلا الله!!..سارق السر يقطعة سارق العلانية.
أما صاحبنا هذا…فهو : أبوعثمان، عمرو بن عبيد “80-144هـ” “699- 761م” كان أبوه: عبيد بن باب، واحدا من الموالي الذين أتت بهم إلي البصرة فتوحات العرب المسلمين لمدن فارس، ومدينة “كابل” الأفغانية علي وجه التحديد..كان من موالي بني العدوية، ومن قبيلة تميم. وأغلب الظن أن مولده كان بالبصرة…ففيها كان أبوه أحد الذين احترفوا صناعة النسيج…ثم ترك هذه الصناعة إلي التجارة..ثم هجر التجارة ليعمل جندياً في شرطة طاغية العراق، علي عهد بني أمية: الحجاج بن يوسف الثقفي(40-95هـ) (660-714م) ومع الحجاج وتحت سلطته أصبح عبيد بن باب واحداً من جهاز الدولة الظالمة وسوطاً من سياط الحجاج التي تلهب ظهور المسلمين..وفي مواجهة الحجاج وتسلطه برز عمرو بن عبيد عالماً زاهداً ورعاً، وأيضا ثائراً ينشد عودة “الشوري” إلي المجتمع، ورجوع “العدل” أساساً للحكم بين الناس..حتي لقد أصبح مع والده: التجسيد للنقيض مع النقيض! وكان عبيد بن باب إذا ما مر علي الناس وبصحبته ابنه عمرو، أشار الناس إلي الأب وقالوا: هذا شر الناس، أبو خير الناس!
النشأة الأولي
وكما هي العادة..فإن مصادر التاريخ ومراجعه لا تلبي حاجة الباحث عن النشأة الأولي لعمرو ابن عبيد ففجأة نلتقي به واحداً من أبرز أصحاب الحسن البصري(21-110هـ) (642-728م) ذلك الزاهد الثائر العالم الذي تنازعت فرق المسلمين ومدارسهم الفكرية عليه، تريد كل واحدة أن تنسبه إلي أئمتها وأعلامها……والذي خرجت من تحت عباءته ومن حلقة درسه بمسجد البصرة – ثورات وهبات وانتفاضات وأحزاب وفرق وتيارات!!
نلتقي بعمرو بن عبيد واحداً من أبرز أصحاب الحسن البصري وشهود حلقته ومدرسته في مسجد البصرة..وكانت قد تبلورت لهذه المدرسة، في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ملامح فكرية ميزتها عن غيرها من التيارات التي كانت تتصارع في الساحة بالمجتمع العربي علي عهد الأمويين.
- فالأمويون منذ عهد معاوية بن أبي سفيان (20-60هـ) (603- 680م) أشاعوا فكرة “الجبر” وشجعوا القائلين به، كي يبرروا التغيرات التي أحدثوها في نظام الحكم الذي حولوه من “الشوري” و”الاختيار” إلي “الملك الوراثي”…..وكي يبرروا كذلك المظالم الاجتماعية والسياسية والاضطهادية التي أصابوا بها خصومهم، والتي بلغت قمتها في القتل الجماعي للخوارج، والمحنة الدائمة للشيعة، ومأساة استشهاد الحسين في كربلاء…..
- وأمام فكرة “الجبر” هذه، أخذت مدرسة الحسن البصري تشيع الفكر الإسلامي النقي، الذي ينحاز بالكامل إلي حرية الإنسان واختياره ومسئوليته، واتهمت دعاه ” الجبر” بأنهم يلحقون شبهة “الجور” بالذات الإلهية، إن هي حاسبت الناس علي أعمال هي التي “أجبرتهم” علي اتيانها…”فالعدل”- وهو من صفات الله- يقتضي تقرير الحرية والاختيار والمسئولية للانسان…
- وفي تيار “أهل العدل” هذا نجد عمرو بن عبيد واحداً من أبرز الأعلام……بل لقد أكدت المصادر الأولي لتاريخ هذا التيار أن رائده كان هو الفيلسوف الثائر معبد الجهني، عبدالله بن حكيم (المتوفي سنة 80 أو سنة 90هـ)……..وإن الذي قاد هذا التيار بالبصرة، بعد معبد الجهني هو عمرو بن عبيد…….بل تذكر هذه المصارد أن تيار” أهل العدل” قد قوي وزاد أنصاره عندما تولي عمرو بن عبيد قيادته، ذلك أن زهده وورعه ونبوغه قد أجتذب إلي صفوف ذلك التيار أنصاراً كثيرين…………..وبعبارة القدماء: فإن أهل البصرة قد اعتنقوا هذا الفكر ” لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله!”.
- والأمويون- كذلك- شجعوا تلك الفرقة التي سميت “بالمرجئة” والتي أرادت صرف الناس عن الجدل حول عقائد بني أمية، بصرفهم عن ربط الأعمال بالاعتقادات، والفصل بين النظرية والتطبيق!…فلم يكن هناك من ينكر أن حكام بني أمية يرتكبون الظلم ويقترفون السيئات ويفعلون الذنوب الكبائر…وأمام هذه الحقيقة حكم الخوارج عليهم بالكفر…فطالب “المرجئة” بإرجاء الحكم علي العقائد، والفصل بين العمل وبين الاعتقاد وإرجاء كل ذلك إلي حساب الله سبحانه يوم الدين!
- ولقد تحفظ تيار العدل- وفيه عمرو بن عبيد- علي تطرف الخوارج، ثم رفض تبرير “المرجئة” وحكم علي مرتكبي الذنوب الكبائر، غير التائبين منها بالفسق والنفاق…
- ولقد شاعت في المجتمع يومئذ بقايا أفكار المذاهب والديانات القديمة التي تميل إلي تشبيه الذات الإلهية بالمخلوقات والأشياء وتتحدث عن “حلول” هذه الذات و”اتحادها” بغيرها من الأشياء…
- وأمام تيار “التشبيه” هذا قدم أهل “العدل” صياغاتهم الفكرية التي عرضت نقاء فكرة التوحيد كما جاءت في القرآن، فرفضوا كل ما يؤدي إلي إلحاق شبهة التشبيه والتجسيد والحلول والإتحاد بذات المولي سبحانه، وأرسوا دعائم فكر التنزيه والتجريد في العلوم الإلهية، لبنه أولي ودعامة أساسية من اللبنات والدعائم التي قام عليها علم التوحيد الاسلامي….ومن هنا كانت شهرة هذا التيار باسم”أهل العدل والتوحيد”…أي القائلون بالحرية والاختيار للإنسان، والتنزيه للذات الإلهية عن مشابهة المخلوقات….هكذا نلتقي بعمرو بن عبيد علماً من أعلام أهل “العدل والتوحيد”….
في قيادة المعتزلة
حتي إذا كان العقد الأول من القرن الثاني الهجري، جاء إلي البصرة ـ من المدينة ـ واصل بن عطاء (80 ـ131هـ) (699ـ 748م) وهو من دعاة “العدل والتوحيد”…ولكنه جاء يبشر بإضافة جديدة فيما يتعلق بالموقف من بني أمية وتقيم أعمالهم ومايترتب عليها…فهو مثل رفاقه يرفض تطرف” الخوارج” وتفريط “المرجئة”…ولكنه يرفض كذلك الاكتفاء بوصف مرتكبي الذنوب الكبائر بوصف “النفاق”…فهم عنده ليسوا كفرة، لأنهم يرثون ويورثون، ويدفنون في مقابر المسلمين…الخ…وهم ليسوا منافقين، لأنهم أصحاب مظالم معلنة….وهم ليسوا بمؤمنين، لأنهم افتقروا إلي الإتصاف بصفات المؤمنين كما حددها القرآن الكريم…إذن فهم في موقف وسط بين الكافرين والمؤمنين، وفي “منزلة بين المنزلتين” اللتين ينزلهما أهل الكفر وأهل الإيمان….
وفي حلقة الحسن البصري بمسجد البصرة عرض واصل أفكاره…ودار من حولها الجدل…..فتبعه فريق من العلماء والطلاب…..ودارت بينه وبين عمرو بين عبيد مناظرة حامية وشهيرة أفضت إلي انتصار واصل، فتبعه عمرو وانخرط معه في قيادة تيار “المنشقين” علي حلقة الحسن البصـــري” المعتزلين” لمذهبه في الموقف من بني أمية ومرتكبي المظالم والذنوب الكبائر…وسموا، منذ ذلك الحين، ولذلك السبب ب”المعتزلة” أهل العدل والتوحيد.
وكان عمرو بن عبيد أبرز قادة المعتزلة في البصرة…والرجل الثاني في مدرستهم الفكرية – بعد واصل علي الإطلاق……
وعندما توفي واصل بن عطاء (131هـ - 748م) تولي عمرو بن عبيد القيادة السياسية والفكرية لتيار المعتزلة…..وكان ذلك التيار قد اجتذب إلي صفوفه – بعد وضوح تشدده في معارضة مظالم بني أمية وظلمهم ـ أنصاراً جدداً كثيرين، وخاضة من شيعة آل البيت، فانخرط في (الاعتزل) شباب آل البيت وفتيانهم، متخلين بذلك عن نهج الشيعة الإمامية الذي بشر به قائدها جعفر الصادق (80- 148هـ) (699-765م) في القعود عن الثورة والتحذير من عواقبها…كما انضم إلي الإعتزال أيضاً شباب بني هاشم، ومنهم العباسيون وكان ضمن الذين انضموا وتتلمذوا علي يدي عمرو بن عبيد: أبوجعفر المنصور(95- 158هـ) (714- 775م) قبل أن يتولي الخلافة العباسية……بل كان يتولي جميع نفقات عمرو من المريدين، ويظهر الميل الشديد له، ويكن له أعظم الود والاجلال والتوقير…
مع الثورة ضد بني أمية
ورغم أن عمرو بن عبيد، وعددا كبيراً من قادة (المعتزلة) كانوا ينحدرون من أصول عرقية غير عربية - موالي- إلا أن مواقفهم الفكرية والسياسية قد برئت من الفكر الشعوبي المعادي للعروبة، بل لقد بشروا ببواكير الفكر القومي العربي، عندما رفضوا كلا من الشعوبية والعصبية العربية الضيقة الأفق، التي استثمرها بنوأمية، واضطهدوا تحت ستار أبناء الشعوب التي فتح العرب والمسلمون بلادها…وقدم المعتزلة بديلاً جديداً لهذين الموقفين المتطرفين، والخاطئين، عندما بشروا بمفهوم حضاري للعروبة ينظرون من خلاله للعادات والتقاليد والثقافة باعتبارها صلات ووشائج تفوق في قوة توحيدها وتأليفها بين الناس قوة الأنساب والعروق والأرحام…وبعبارة الجاحظ (163- 225هـ) (780- 869م) – وهو من أعلام المعتزلة – فإن هذه الروابط الحضارية، بالنسبة للعرب والذين تعربوا هي بمثابة الرحم الواحد ولدتهم منه العروبة ولادة جديدة، كي يؤلفوا معا مجتمعهم الواحد والجديد!
ومن هنا فلم يتعصب عمرو بن عبيد ولم تتعصب المعتزلة ضد الأمويين…عارضوهم…نعم…وثاروا ضدهم…ولكن دون تعصب يطمس الايجابيات ويغفل عن نقاط الاتفاق والالتقاء…
فعندما تولي الخلافة الخليفة الأموي العادل عمر بن عبدالعزيز (61-102هـ) (681- 730م) أيده المعتزلة، وساندوه وتولي غيلان الدمشقي (المقتول بعد سنة 106هـ) معاونته في مصادرة أموال بني أمية وبيعها في مزاد عام، لحساب الأمة، في ميادين دمشق…وعندما تسائل البعض: كيف تعترف بإمامة عمر بن عبدالعزيز وهو قد تولي الخلافة بالميراث ودون شوري؟!…كان جواب عمرو بن عبيد في تشخيص هذا الوضع “الدستوري” الفريد : لقد ” أخذ عمر بن عبدالعزيز الخلافة بغير حقها، ولا باستحقاق لها- ولكنه استحقها بالعدل حين أخذها” فهو لم يصبح إماما بالتفويض والبيعة المتقدمة من قادة الأمة، ولكنه أصبح إماماً بالرضا المتجدد من أهل الفضل والحل والعقد، الذين ناصروه، وأثنوا علي ما أحدث في الدولة والمجتمع من تحولات.
وعندما انخرط الأمير الأموي: يزيد بن الوليد (86-126هـ) (705-744م) في تيار المعتزلة، وعقدوا له البيعة بالاختيار، ثم ثاروا تحت قيادته ضد حكم الخليفة الأموي الماجن: الوليد بن يزيد (88-126هـ) (707-744م) لم يتردد عمرو بن عبيد وهو بالعراق في تأييد الثورة التي قامت بدمشق الشام، ومساندتها فدعا أصحابه الي تكوين جيش يقوده هو، يخرجون به إلي الشام ثائرين، ناصرين للثوار الذين يقودهم أمير أمـــوي…وقال عمــرو لأصحــابه ” تهيأوا حتي نخرج إلي هذا الرجل فنعينه علي أمره”
وعندما سئل عمرو بن عبيد عن تقييمه لفترة حكم هذا الخليفة الثائر، وعن استحقاقه صفة “الإمامة” بشروط المعتزلة لها وفيها، كان جوابه: “أنه الكامل! عمل بالعدل! وبدأ بنفسه، وقتل ابن عمه في طاعة الله، وصار نكالاً علي أهل بيته، ونقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة، وجعل في عهده شرطاً ولم يجعله جزما”
فمؤهلات هذا الأمير الثائر، التي استحق بها الإمامة علي مذهب عمرو بن عبيد: 1- العدل…وهو قد مارسه، وبدأ فيه بنفسه. 2- وقاد الثورة ضد أمراء بيته الأموي…وقتل خليفتهم: ابن عمه. 3- واقتص للناس من بني أمية. 4- وإعادة توزيع الثروات بالعدل، وانقص الأعطيات التي زادها الجبابرة من خلفاء الأمويين. 5- وعندما بايعه الناس بالخلافة، جعل عهد بيعته واستمرارها مشروطاً بطاعته لله وعدله في المجتمع، وقيامه بالعدل بين الناس، ولم يجعلها بيعة جازمة مؤبدة كما كان يفعل سابقوه!
ومن هنا فهو إمام…وإمام كامل…كما يقول عمرو بن عبيد…ومن هنا فهو معدود في سلسلة الأئمة الذين استحقوا الإمامة علي مذهب المعتزلة…
أزمة علاجها الشوري
فلما دخلت الدولة الأموية في دور الاحتضارتحت الضربات القوية التي أثمرتها ثورة الخوارج، وخاصة الخوارج الأزارقة بدأت الأطراف السياسية المختلفة تضع في جدول أعمالها قضية: من يخلف بني أمية في منصب الخلافة وحكم الامبراطورية؟؟..
أما القوي الشعوبية، وعلي رأسها جند خراسان الذين يقودهم أبومسلم الخراساني(137هـ- 754م) فإنهم انخرطوا في تيار الثورة يبغون الانتقام من العرب فتحوا بلادهم وأذاقوهم مرارة التعصب، الذي مارسه الأمويون….وأما شيعة آل بيت الرسول ومعهم عامة بني هاشم فإنهم ثاروا، هم كذلك، طالبين أن تكون الخلافة في ” آل محمد” دون تحديد لشخص الخليفة المنشود…كما انخرطت في جموع الثورة ومواكبها وشاركت في معاركها المسلحة جموع وقبائل وتيارات تباينت غاياتها واتفقت فقط علي الرغبة في التغيير، طمعاً في أن يأتي فجر العدل بعد ليل الظلم الأموي الطويل!
وهنا تقدم المعتزلة – الذين شاركوا في الثورة بمشروع محدد ومدروس فلقد أعلنوا، علي لسان قائدهم عمرو بن عبيد، أن آفة نظام الحكم الأموي قد بدأت مع معاوية بن أبي سفيان، يوم أحدث انقلابه الدامي الوراثي…ومن ثم فلابد من إعادة “الشوري” فلسفة لنظام الحكم، واختيار خليفة تُعقد له البيعة بالرضا والاختيار…قرروا ذلك، وأعلنوه ودعوا إليه مختلف الفرقاء…
ولقد تحفظ فريق من الشيعة الإمامية علي هذا المشروع، لأن المعتزلة هم الذين تقدموا به، ولأن الخليفة المرشح كي تعقد له البيعة – محمد بن عبدالله بن الحسن النفس الزكية- وإن يكن من آل البيت إلا أنه معتزلي…وزعم هذا الفريق أن لديه “صحيفة” سماوية قد دونت بها أسماء الأئمة والخلفاء، وليس النفس الزكية من بينهم!
ولكن المعتزلة، ومعهم تيار قومي عربي مؤثر، قد مضوا في سبيلهم رغم تحفظ رأس الشيعة الإمامية: جعفر الصادق ( 80-148 هـ) (699-765م) لأنهم أبصروا الخطر الشعوبي الذي كان يحمل في السياسة فكراً “ملكيا” من مواريث الكسروية الفارسية، ولا يذهب مذهب المعتزلة في “الشوري” و”الفكر القومي العربي المستنير” فدعا عمرو بن عبيد إلي مؤتمر جامع عقد بمكة، وعرض فيه اقتراحه فقال: ” …إننا قد نظرنا، فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروءة ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبدالله بن الحسن…فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه وكان معنا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا – (عادانا وحاربنا)- جاهدناه ونصبنا له علي بغيه، ونرده إلي الحق وأهله…”
وبايع جمهور الحاضرين في هذا المؤتمر(للنفس الزكية) بالخلافة، وبدأت تعقد له البيعة في المدن والأمصار والأقاليم…وأخذت قوات أموية تطرق إليها اليأس في قتالها ودفاعها عن الدولة المحتضرة، أخذت تفكر في البيعة للخليفة الجديد…وكان أمراء البيت العباسي الهاشمي – ومنهم أبوالعباس (السفاح) ، وأبوجعفر المنصور- من رجالات المعتزلة يومئذ ومن حضور مؤتمر مكه، ومن الذين بايعوا (النفس الزكية) بالخلافة مع المبايعين.
ولكن التيار الشعوبي نجح في اجهاض مسعي المعتزلة وحلفائهم، وعندما تخلص من القيادة القومية في حركة الثورة المقاتلة، ممثلة في أبي سلمة الخلال، باغتياله سنة 132هـ ثم استقطب من الهاشمين فرعاً طامعاً في السلطة هو الفرع العباسي، فعقدا معاً صفقة سياسية: أن يزيح من طريق الثورة تيارها القومي وقيادتها المعتزلية العقلانية، وأن يظل نظام الحكم ملكيا وراثياً، مع استبدال بني العباس ببني أمية، وأن تكون اليد العليا في النظام الجديد للجند الخراساني الذي يقوده الشعوبيون…
وتداعت الأحداث التي نصرت ذلك المخطط…ووثب إلي منصب الخلافة “معتزلي مرتد” هو أبوالعباس السفاح (104- 136 هـ) (722- 754م) ثم لم يلبث أن توفي ليخلفه في الخلافة التلميذ القديم لعمرو بن عبيد: أبوجعفر المنصور.
المقاومة السلمية
ووجد عمرو بن عبيد تلميذه القديم يتولي الخلافة، ويطارد بالسجن والقتل والتعذيب، رجال المعتزلة، وكل الذين ظلوا أوفياء لفكرة الشوري، وأمناء للبيعة التي أعطوها للنفس الزكية…ووجد التلميذ القديم نفسه في مواجهة التيار الفكري الذي انخرط فيه يوماً، والذي يقوده الزاهد العابد الناسك: عمرو بن عبيد، استاذه الذي لم تزل الخلافات الجديدة ما استقر له بنفسه من إجلال وتوقير…فبدأت مرحلة من الصراع المعلن الصامت، والأخذ والجذب، والتوجس والريبة بين رجلين جمعتهما يوماً ووحدتهما الفكرة والقضية والفلسفة والاتجاه…
فالمعتزلة أخذ فريق منهم يستحث عمرو بن عبيد كي يعلن الثورة المسلحة ضد حكم المنصور العباسي…ولكن الرجل- مع إيمانه بالثورة، ضرورتها ومشروعيتها وتوافر دواعيها- كانت له تجارب مباشرة وغير مباشرة، جعلته يستحضر ذكريات الثورات العديدة التي قامت ضد الأمويين ثم فشلت، وما جرته علي أصحابها من ويلات وآلام……فدعا إلي نظرية في الثورة تطلب: ” الإعداد والإستعداد” وسماها : (التمكن)…فهو لا يحبذ التمرد الذي يفضي إلي الفشل، بل يطلب الإعداد الذي يضمن للثوار (التمكن) من بلوغ الغاية التي يريدون…ولقد كانت عينه تريد وقلبه يبغي أن يتوفر للثورة نفر من ثابتي العقيدة أقوياء الايمان شديدي البأس يبلغون في العدد مبلغ الذين قاتلوا مشركي قريش يوم بدر مع رسول الله….فطلب ألا تعلن الثورة حتي يبلغ مقاتلوها، في العدد والصفة، مبلغ البدريين!! وفي هذا السبيل تحمل عمرو مُر النقد، بل والهجوم من نفر من المعتزلة فأبو عمرو الزعفراني ينتقده، ويدور بينهما حوار يبدأه الزعفراني بقوله:
إني أخالك جباناُ!! ….ولم؟!……لأنك مطاع ولا تناجز هذا الطاغية؟؟!!
ويحك! هل الجند أشد من جندهم؟…ورجالي أشد من رجالهم؟ أما رأيت صنيعهم بفلان، وخذلانهم لفلان؟ والله لوددت أن سيفين اختلفا في بطني حتي يبلغا منحري، كلما انتهيا إلي ذلك أعيدا، وأن الناس أقيموا علي كتاب الله وسنة نبيه!”
والمنصور يتوجس خيفة من استاذه القديم، ولكنه يفرح بعض الشيء ويطمئن بعض الاطمئنان لنظرية ضرورة (التمكن) هذه…….فأني لعمرو بن عبيد نيف وثلاثمائة مقاتل في عزمه وصلابته ويقينه، كما كان لرسول الله يوم بدر عندما التقي الجمعان؟!
ويحاول المنصور تضييق الفجوة بينه وبين المعتزلة، سالكا طريق علاقاته القديمة بعمرو بن عبيد، فهو يريد أن يجمع له نفقاته، كما كان يفعل قديماً..ولكن عمراً يرفض بإصرار عطاء الخليفة المنصور!
ثم يدخل المنصور مباشرة، إلي لب الخلاف في القضية، فيطلب من عمرو أن تعترف المعتزلة بالأمر الواقع. فلقد أصبح الحكم بيد بني العباس، وكثيرون حتي من الذين بايعوا للنفس الزكية، قد أعطوا المنصور بيعتهم، رغبا أو رهبا!! ولم يبق –في نظر المنصور- إلا أن يتعاون المعتزلة مع النظام الجديد، ويسهمون في نظام الدولة وحركة التغيير…ولكن عمرو بن عبيد يرفض التعاون، بل ولا يتسامح مع أي معتزلي يدخل جهاز الدولة الجديد!
ولكن المنصور لا ييأس…..فاستدعي عمرو بن عبيد، وأعلن له أنه يفوضه في أن يولي أصحابه المناصب التي يريد……فرفض عمرو مرة أخري، وأنبأه أن وجوده منصب الخلافة وجهاز الدولة في قبضة الجند الخراساني –(الشياطين) –عقية لا تنفع في تذليلها مثل هذه التفويضات لأن الأساس خاطيء، والقوة المهيمنة والضاربة تقف من فكر المعتزلة موقف العداء….ودار بين الرجلين هذا الحوار الذي بدأه المنصور بقوله:
“يا أبا عثمان، ائتني بأصحابك أستعين بهم”
“أظهر الحق يتبعك أهله! ومر عمالك بالعدل والانصاف…”
“إني لأكتب لهم، فآمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا لم يعملوا فما عسانا نفعل؟!
إنك لتكتب إليهم في حوائجك فينفذونها، وتكتب إليهم في طاعة الله فلا ينفذون؟! إنك لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل لتقرب به إليك من لا نيه له فيه….إن الملوك بمنزله السوق، وإنما يجلب إلي السوق ما ينفق فيها!…إن حاشيتك اتخذوك سلما لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين، وغيرك يحلب!…إن هؤلاء لن يغنوا عنك من الله شيئاً!!
فيرد المنصور ” هذا خاتمي – ونزع المنصور خاتم الملك- خذه، وول من شئت، وأئت بأصحابك أولهم!…
إن أصحابي لا يأتونك وهؤلاء الشياطين-(الخراسانية الشعوبية)- علي بابك، فإن هو أطاعوهم أغضبوا الله، وإن هم عصوهم أغروك وألبوك عليهم….أدعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك!…ببابك ألف مظلمة، أردد منها شيئا نعلم أنك صادق؟!..
وعند هذا الحد من الحوار الساخن بين الاستاذ الزاهد العابد الناسك الثائر، وبين تلميذه القديم، الذي أصبح ملكاً يعادي رفاق كفاحه ويتعقبهم بالسجن والنطع والسيف ومختلف صنوف العذاب…عند هذا الحد أراد عمرو بن عبيد الانصراف…فرغب المنصور أن يقبل عمرو منه مالاً، ودار بينهما فصل جديد في الحوار، بدأه المنصور:
“قد أمرنا لك بعشرة آلاف….” فيرد عمرو ” لا حاجة لي فيها!” فيقول المنصور” والله لتأخذنها!” ” لا، والله لا آخذها”
وكان المنصور إمعانا في تكريس نظام الملك الوراثي، قد عين ابنه” المهدي” ولياً للعهد…..وكان شاهداً لحوار أبيه مع عمرو بن عبيد……فاستعظم أن يرفض رجل عطاء أبيه الخليفة، واستنكر أن يرد انسان يمينا حلفها المنصور، فتدخل في الحوار، مخاطبا عمرو بن عبيد، ومستفهماً في إنكار واستنكار.
“يحلف أمير المؤمنين، وتحلف أنت؟!”
“(فتسائل عمرو): من هذا الفتي؟!
“هذا محمد ابني، وهو المهدي، وهو ولي عهدي!
“أما والله لقد ألبسته لباساً ما هو من لباس الأبرار، ولقد سميته باسم ما استحقه عملاً..! ولقد مهدت له أمراً-ولايه العهد- أمتع ما يكون به،اشغل ما يكون عنه! –(ثم التفت عمرو إلي المهدي، ولي العهد، وقال): نعم، يابن أخي، إذا حلف ابوك أحنثه عمك! لأن أباك أقوي علي كفارات اليمين من عملك!!
ومرة ثانية…أراد عمرو الانصراف…
ولكن المنصور أراد أن يسبر غوره، ويعلم موقفه من الثورة التي يعد لها النفس الزكية، والتي اختفي عن العيون والجواسيس كي ينجز لها العدة والعتاد…وكان المنصور علي يقين من صدق عمرو واستحالة الكذب علي لسانه…فسأله:
“بلغني أن محمد بن عبدالله بن الحسن – (النفس الزكية)- كتب إليك كتاباً!
“قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه!!
“أجبته؟…-(أي استجبت لرأيه في الثورة المسلحة، وتجريد السيف ضدي؟)
“ألست قد عرفت رأيي في السيف – (الثورة المسلحة)- أيام كنت معنا؟!
“أفتحلف؟!
“إن كذبتك تقية – أي اتقاء للضرر- لأحلفن لك تقية؟!!
“أنت والله، الصادق البار!!”
عند هذا الحد من الحوار بدت رغبة عمرو بن عبيد شديدة في الانصراف…فسأله المنصور: “فهل لك من حاجة؟ ….نعم…لا تبعث إلي حتي أجيئك!!
إذا لا تلقني أبدا؟!….هذه هي حاجتي!”
ونهض عمرو منصرفا تشيعه نظرات الإعجاب من المنصور، ونظرات العجب والدهشة من حاشيته، الذين شهدوا من جرأته مالم يعهد مجلس الخليفة من قبل…فأراد المنصور أن يبدد عجبهم ودهشتهم، فنظر إليهم، بعد أن ودع – واقفا- استاذه القديم…وقال لهم:
كلكم يمشي رويد …..كلكم يطلب صيد…..غير عمرو بن عبيد
ولقد ظل المنصور قلقاً، تتوزعه الأفكار…فهو يثق بصدق استاذه القديم فيما قاله من أن مذهبه في استخدام السيف –أي القوة- في تغيير النظم والدول معروف…ولكن…ما يدريه أن تجتمع لثورة النفس الزكية شروط الاستعداد والتمكن فيمنحها عمرو بن عبيد البركة التي تدعمها بالقوة والأنصار! ومن هنا، وحتي يطمئن قلبه، زور كتابا علي لسان النفس الزكية، وبعث به رسولا إلي عمرو بن عبيد، وهو يجلس ليعلم في مسجد البصرة، كالمعتاد….فلما نظر عمرو في الكتاب، طواه، وأدرك ما وراءه، فرفع بصره إلي الرسول وقال له: ” قل لصاحبك: دعنا نجلس في هذا الظل، ونشرب من هذا الماء البارد حتي تأتينا آجالنا في عافية؟!”
وبقدر ما كان المنصور ينجح في حرمان قوي الثورة الاعتزالية من شروط (التمكن) كما يراها استاذه القديم بقدر ما كان اطمئنانه لموقف استاذه يزداد…فلقد قال له يوما قائل:
“إن عمرو بن عبيد خارج –ثائر- عليه….(فأجابه)-:
“هو لا يري أن يخرج علي إلا إذا وجد ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً مثل نفسه…وذلك لا يكون؟!”ظلت هذه الأفكار والنوازع والهواجس تتنازع المنصور…وهو دائب السعي لاجهاض استعداد المعتزلة للثورة…بالسجن والتعذيب والقتل والحصار والمطاردة والتجويع…بالترغيب وبالترهيب…وأيضا بحصار عمرو بن عبيد والحد من نفوذه الطاغي علي أنصاره ومريديه…
وعندما أدركت الوفاة عمرو بن عبيد في الطريق إلي مكه، سنة 144 هـ 761م، ودفن في “مران” – علي بعد مسيرة ليلتين من مكة- تنازعت المنصور مشاعر متباينة وأحاسيس شتي…
- فهو قد حزن لموت انسان ليس كمثله كثيرون.
- ثم هو قد تخلص –بالموت- من خصم كان موقفه في صفوف المعارضة عبئاً ثقيلاً علي الدولة ونظامها…
- ولكنه أصبح بخاف الثورة أكبر من ذي قبل…فلقد مات صاحب نظرية (التمكن) وضرورة الصبر في الإعداد والاستعداد…,انفتح الباب أمام الشاب المتعجل للثورة ضد بني العباس..
- ولكن…لعل في التعجل والتعجيل بالثورة الخير كل الخير للدولة…ففي ذلك حتف الثوار واجهاض الثورة الأكيد…لكن هذه الأحساسيس جميعها لم تدع أية شائبة تشوب الصورة القدسية لعمرو بن عبيد في نظر تلميذه وخصمه أبي جعفر المنصور…حتي إذا سافر إلي مكة، وأبصر في الطريق قبر أستاذه ب”مران”، توقف بركبه، وصنع مالم يصنعه خليفة من قبله…إذ رثي –وهو أمير المؤمنين- رجلاً لم يتول في يوم من الأيام منصباً من المناصب، فضلا عن أن يكون هذا المنصب مساوياً أو مقارباً لمنصب أمير المؤمنين…وقف التلميذ أمام قبر استاذه وقال:
صلي الإله عليك من متوسد قبراً مررت به علي مران
قبراً تضمن مؤمنا متحنـــفاً صدق الإله ودان بالفرقـان
فلو أن هذا الدهر أبقي صالحا أبقي لنا حيا اباعثمـــــــــان
واندلعت ثورة المعتزلة، بقيادة النفس الزكية، ضد المنصور سنة 145هـ…بعد عام من وفاة قديسهم وزاهدهم وناسكهم وعالمهم وقائدهم: عمرو بن عبيد…رحمه الله !
منقول من كتاب “مسلمون ثوار” للدكتور والمفكرالإسلامي محمد عمارة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ردحذفجزاكم الله خيرا على الموضوع المفيد بحق
دمتم في حفظ الله
وكل عام وانتم بخير
لك كامل تقديرى
ردحذف