أستيقظ من نومه على أثر ذلك الشعاع الذي أخترق نافذته غير آبه بزجاجها أو بذاك الستار المخملي الذي كانت تختبئ خلفه، وقف على قدمين متثاقلتين بعد أن أزاح عنه غطاءه الذي ظل يضمه إلى صدره طوال الليل بعد أن عطره من زجاجة العطر التي أهدته إياها في عيد ميلاده ..توجه نحو النافذة ليفتحها وينظر من خلالها إلى حديقة منزله وقد امتلأت بأسراب الحمام التي اعتادت على التجمع في زاوية معينة من الحديقة حيث كان يضع لها الحبوب ليستمتع بالنظر إليها كل صباح، ولكنه أحس بشيء مختلف في تلك اللحظة .. لعلها تكون المرة الأخيرة التي يرى فيها هذا المنظر ..عاد إلى فراشة كي يرتبه كعادته ويقلب المخدة التي كان ينام عليها كي يخفي ذلك البلل الذي أصابها من دموعه التي ذرفها طوال ليله وهو يحتضن غطاؤه المعطر ..وبعد أن انتهى من ترتيب سريره ولملمة أغراضه التي كانت تغطي أرض الغرفة ومعها جراحة وأجمل الذكريات على قلبه، أخرج حقيبته من تحت سريره وراح ينفض عنها الغبار ثم فتحها بعد أن أزال آخر ملصق وضع عليها خلال رحلته الأخيرة قبل بضعة أشهر ..توجه إلى كرسيه الخشبي القديم الذي كان يقضي عليه جُل وقته في قراءة رسائلها والرد عليها بأعذب وأجمل كلام قد يخطر على قلب بشر وقد كوم عليه ملابسه وكل أغراضه وحملها ببطء إلى حقيبته حيث مثواها الأخير في ذلك المكان وفي ذلك الصباح الدافئ، رتب أغراضه داخل حقيبته ثم حاول إغلاقها بعناء بعد أن كدس فيها كل شيء ما عدا زجاجة العطر التي فضل إبقاؤها في جيب معطفه كي تبقى قريبة منه يخرجها كلما أراد ذلك ..خرج من منزله وأستقل سيارة أجرة إلى محطة القطار الذي سوف يقله إلى مقره الجديد في العمل بعد صدور قرار نقله إلى هناك، كان سارحاً بالنظر والتحديق في شوارع مدينته وكأنه يودع فيها كل شيء تماماً كما ودع أسراب الحمام.مرت دقائق وهو على تلك الحال حتى صرخ فيه سائق الأجرة: لقد وصلنا يا سيديترجل من السيارة وتوجه نحو البوابة الرئيسية وبالتحديد إلى شباك التذاكر، يلحق به سائق الأجرة وهو ينادي: أيها السيد .. لقد نسيت الحقيبة، أخذ الحقيبة من ذلك الرجل وهم بسيره كمن لا يريد أن ينظر خلفه ؟!ركب القطار وهو يكرر النظر إلى ساعته وكأن الوقت يمضي زحفاً ببطء قاتل، ظل كذلك حتى تحرك القطار، أزاح الستار عن نافذة مقعده وصار ينظر إلى مشارف مدينته وبقايا ذكرياته وكل مكان قد يكون رآها فيه أو جلس معها بقربه وكأنه طائر مهاجر يودع عشه بعد حلول فصل الشتاء .. قطع عليه تفكيره صوت سيدة كانت قد جلست جواره وهي تقول: لهذه الدرجة أنت معجب بالمنظر في الخارج؟ يرد عليها وقد تنفس الصعداء: لا، ولكني راحل عن مدينتي وأحببت أن أودع كل شبر منها وكل ذكرياتي الجميلة فيها .. تمد له كوباً من القهوة: تفضل فأنت بحاجة إليهتناول الكوب من يدها وأطبق عليه بشدة بين يديه وقد تذكرها وهي تمد له كوب القهوة وكيف أنه كان يتناوله من يدها ومن ثم يضم يدها إلى صدره حتى الثمالة، مرت ساعتان من الوقت ولم يتبقى سوى القليل على موعد الوصول، لقد قضى وقته يتحدث مع تلك السيدة عن المدينة التي أنتقل إليها لأنها تقطن هناك منذ زمن.توقف القطار وتزاحم الركاب على الأبواب، أما هو فما زال جالساً على كرسيه ينتظر أن يخف الزحام .. توجه إلى باب القطار بقدمين مثقلتين ووضع قدمه على أرض تلك المدينة فوجد من بين الزحام مجموعة تنتظر وصوله لتستقبله وترافقه بقية حياته في تلك المدينة، تلك هي الغربة و الوحشة وألم الشوق إلى صاحبة العطر التي تركته و ذهبت تبحث عن قلب آخر تحرقه بحبها كما أحرقت قلبه من قبل ..
للمزيد .. يشرفني زيارتكم لمدونتي المتواضعة "بقـــايـا"
http://www.remains1975.blogspot.com/
إلى كل المدونين المصريين، ومحبي الأدب،وبهاء طاهر ، ومصر :
ردحذفأدعوكم، وتدعوكم ورقة وقلم .... إلى الاحتفالية المقامة بمناسبة فوز بوكر العربية ببهاء طـاهر ، وذلك يوم الثلاثاء القادم .... الأول من إبريل ... في نقابة الصحفيين الدور الرابع ... السادســـة مساءً