( التوت المحروق ) قصة قصيرة والله لم أقصد يا أمى.. أنا أحبك.. والله العظيم أحبك رغم كل ما كان.. صدقينى إننى حتى نسيت.. ورحمة جدى الذى كنت تحبينه نسيت كل شئ.. بالذات المرة الأولى حين قمت أشرب فسمعت ذلك الصوت من حجرتك المغلقة.. آهات عجيبة جعلتنى أشب على أصابعى لأدس عينى المزروعتين بالرمد فى "خرم" الباب..من ذلك البغل الذى كان يأكلك؟ كيف تركته يعب لحمك الكثير ..الكثير هكذا.. الذى كنت تمنعيننى من رؤيته عاريا كأننى لست ولدا مفعوصا كما تقولين دائما.. تذكرت العلقة التى أخذتها منك لما أخرجتنى أنا وبهية من تحت سريرك وقلت لى: فى الليالى التالية لم ألعب مع العيال فى الجرن.. كنت أقعد على الكنبة بعد أذان العشاء بكثير.. أراقبك وأنت تسرحين شعرك الجميل الطويل الذى أحبه.. حين كان الرجل يدخل كنت أطاوع نفسى وأفكر فى منظرك وشعرك هذا ملفوف على رقبتك وأنا أشده بقوة.. سامحينى يا أمى.. إننى لم أكرهك والله.. كرهت فقط ذلك البغل الذى وضع يده على رأسى مرة فأحسست أنه سيخنقنى ولما حاول أن يعطينى ريالا كاملا رفضت.. هل كان يعطيكِ ريالات أنت أيضا لينام فى حضنك بدلا منى؟ .. فكرت أن الريالات هى السبب فقلت لك فى الصباح إننى سأعمل من اليوم لأحضر لك ريالات كثيرة بشرط أن تأخذينى فى حضنك كل ليلة.. مصمصت شفتيك ونظرت لى باستهتار قائلة:
ـ يخيبك.. بتعمل إيه انت وهى؟
حلفت لك أننا فقط نختبئ من باقى العيال.. لكنك لم تصدقينى.. من أسبوعين قلت إننى أصبحت رجلا وطردتنى من حضنك لأنام على الكنبة وسط كل العفاريت الذين تعرفين أننى أموت منهم.. وأنهم يبللون جلبابى الوحيد لتضربينى أنت كل صباح.. تذكرت كلامك وكلام الشيخ "عبد العزيز" عن النار التى سيرمينا الله فيها لو خالفنا ثلاثة: الله والشيخ "عبد العزيز" وأمهاتنا.. جعلنى كل هذا أعرف أن ذلك الرجل كان يفعل بك ما يفعله غصبا عنك.. دفعت الباب وهجمت عليه.. لكنه كان بغلا فعلا.. فلم يمكننى إلا أن أعض يده الكافرة التى تنبش صدرك.. بعد أن زعقت فيه:
ـ سيب أمى يا راجل انت .
ياه.. كانت عضة يا أمى.. ليس أقوى منها إلا القلم الذى أعطاه لى.. فطرت.. طرتُ مثل الكرة الشراب حين يشوطها الولد "سيد" الذى أكرهه.. لابد أنك كنت تخافين منه كثيرا.. لأنك لممت صدرك كأنك تخفينه عنى أنا وأخرجتنى بقسوة زاعقة فىّ:
ـ إنجر نام يا مقصوف الرقبة .
ونمت.. نمت كالكلب أمام بابك المغلق بعد أن بكيت وارتعشت مثل نور لمبة الجاز فوق سريرك.. لكنك فى الصباح كنت طيبة معى.. لم تضربينى وأنا أقف أمامك عاريا لتغسلى جلبابى المبلول.. لم تشتمينى وتدعى علىّ لما تأخرت فى الذهاب مع العيال للشيخ "عبد العزيز" فى الجامع.. هل تعرفين.. لو كنت ضربتنى ساعتها لم أكن سأبكى أبدا.. هل خفتِ منى يا أمى؟ ..
ـ عيال آخر زمن!
هل أبى هو السبب؟ جريت إلى داره الجديدة العالية.. زوجته سدت الباب وهى تكذب وتقول إنه ليس هنا.. ناديت عليه وأنا أفلت من يديها.. لكنها أمسكتنى وضربتنى.. لم أبكِ إلا حين شتمتكِ وقالت:
ـ أمك "....."
هل كانت تعرف من ينام فى حضنك كل ليلة؟ ..هل كان أبى يعرف ولهذا طلقك؟ كثيرون يضربوننى فى هذه الدنيا يا أمى.. زوجة أبى تضربنى لأنها تكرهنى وأبى نفسه يضربنى وهو لا يرانى إلا صدفة.. الشيخ "عبد العزيز" يسلخ لى رجلىَّ لأننى أتأخر عليه بالفلوس.. الولد "سيد" ينام فوقى على الأرض ويكتم نفسى أمام العيال لأن "بهية" لا تلعب "عريس وعروسة" إلا معى.. أنت أيضا تضربيننى وتركت ذلك الرجل يضربنى أول مرة.. خرج أبى زاعقا فحاولت أن أغطس فى حضنه الذى لم يفتحه لى.. انخرس لسانى فأخذت أبكى وأشد فيه ليجئ معى.. لكنه ترك زوجته ترمينى على عتبة الدار.. صحيح أن فمى امتلأ بالدم والطين.. لكنى فكرت ساعتها كيف سأقطع إذن رِجل ذلك البغل من دارنا.. جاءت "بهية" تسألنى لماذا لم أعد ألعب معهم فى الجرن.. فجريت معها وقلت للعيال إننا سنلعب أمام دارنا كل ليلة.. قالوا كيف نترك الجرن الواسع وأكوام التبن والقش والترعة التى نستحم ونسابق السمك فيها.. فوعدتهم أن أسرق لهم كل السكر الذى فى دارنا.. سرقته من ورائك وأنت تستحمين فى انتظار رجلك الذى تأكدت أنه لن يجئ هذه الليلة لأننا سنلعب أمام الدار طول الليل.. تركتهم يغلبوننى كل المرات.. ولكن لما لعبنا "عريس وعروسة" لم أترك "بهية" للولد "سيد".. كله إلا "بهية" يا أمى.. هل تعرفين أنها جميلة مثلك ولها عينان واسعتان أختبئ فيهما ونحن نلعب "استغماية".. وأنها رفضت أن تأخذ منى نصيبها فى السكر لأنه حرام!! .. الشيخ "عبد العزيز" أذن للعشاء بسرعة لينام.. فقال العيال كفاية لعب.. أرادوا أن يذهبوا كلهم فقلت إننى فى الصباح سأعطى كل من يبقى ليلعب معى حفنة توت مثل العسل من التوتة العجوزة التى عينها الله على ترعتنا قبل تعيين جد العمدة الكبير.. لم يصدقونى.. والولد "سيد" الله يلعنه قال:
ـ لو كنت راجل صحيح هات لنا التوت الليلة ...
نسيت أننا بالليل وجريت أسرع من طيارة الرش.. التوتة لم تكن طيبة معى.. قطعت يدىّ ورجلىّ الحافيتين.. وجذعها طال .. طال حتى خرم السماء.. والعفاريت بللت جلبابى كثيرا حتى أنه لن ينشف لو نشرته فى نِنِّ عين الشمس.. لكنها لم تسخطنى قردا كما تقولين.. جمعت توتا يكفى العيال المفاجيع لأسبوع.. ولما نزلت لممت كل التوت الواقع على الأرض.. هذا التوت كان غاليا جدا.. سيأكله الملاعين صحيح.. لكنه من أجل عيونك أنت.. التوت يا أمى جعلنى لم أعد مفعوصا.. فلما ألصقت كتفى بالتوتة وجدتنى أنظر لها من فوق..
قابلتنى "بهية" وقالت إن العيال أولاد الكلب ضحكوا علىّ وغاروا من زمان.. حلفت لها أننى سأكبس بطونهم طينا بدلا من التوت الذى لففته فى صرة كبيرة قبل أن أجرى للدار.. بابك المغلق خلعته برجلى مثل "طرزان" الذى يحلف الولد "سيد" أنه قريبه.. ارتعشت كالفرخة المذبوحة وأنا أجدكما تأكلان بعضا مثل.. مثل الكلاب المسعورة يا أمى.. سامحينى.. لا أعرف هل وجدتنى بينكما على السرير.. أم أننى رميت صرة التوت فى وجه رجلك.. المهم أننى رأيت التوت يفرش السرير كله ولمبة الجاز تسقط فوقه لترش الحجرة بالنار.. هل عرفت أن رجلك جرى مع أول صرخة لك.. وأننى لم أعد مفعوصا تبلل العفاريت جلبابه.. وأننى واللهِ.. واللهِ العظيم لم أقصد ذلك.. هل عرفت كل هذا يا أمى قبل أن تبلعك النار مع التوت المحروق؟.
السبت، 5 أبريل 2008
التوت المحروق قصة قصيرة بقلم إيهاب رضوان
إيهاب رضوان ( عام 1996 )
Labels: ادب وثقافة
الاشتراك في:
0 comments:
إرسال تعليق